تابع الاصحاح الخامس *4
صفحة 1 من اصل 1
تابع الاصحاح الخامس *4
7. التطليق
"وقيل من طلق امرأته فليعطها كتاب طلاق،
أمّا أنا فأقول لكم إن من طلق امرأته إلا لعلّة الزنا، يجعلها تزني،
ومن يتزوج مطلّقة فإنه يزني" [31-32].
كان الزواج قد انحط تمامًا عند الأمم، فالرومان الذين كانوا قبلاً يقدّسون الزواج فيحترم الرجل أسرته وتقوم المرأة أو الزوجة بدور رئيسي في الأسرة، قد تأثّر باليونان فكريًا، فصار الطلاق شائعًا جدًا. قيل عن امرأة أنها تزوّجت ثماني مرّات في خمس سنوات. أمّا اليونان فقد عرفوا في ذلك الوقت بالفساد حتى كان الرجال يحاولون عزل نساءهم خشية ممارستهم الشرّ، وفي كورنثوس تكرّست ألف كاهنة لبناء هيكل آخر لأفروديت إلهة الحب، فيجمعن المال بطريقة مملوءة خلاعة. أمّا بالنسبة لليهود فقد حملوا تقديسًا للزواج، فكان الطلاق مكروهًا لديهم. يقول الرب: "فاحذروا لروحكم ولا يغدر أحد بامرأة شبابه، لأنه يكره الطلاق قال الرب" (مل 2: 15-16). ومن أمثال الربيين: "يفيض المذبح دموعًا عندما يطلق إنسان امرأة شبابه". هكذا كان الطلاق مكروهًا جدًا، لكن الله سمح لهم به من أجل قسوة قلوبهم. وقد اختلفت مدارس التفسير اليهوديّة في تقديم الأسباب التي تبيح الطلاق. فمدرسة شمعي تميل إلى التضييق، فلا تسمح بالطلاق إلا في حالة فقدان العفّة. أمّا مدرسة هليل فكانت متحرّرة للغاية. يمكن للرجل أن يطلق امرأته لأي سبب مهما كان تافهًا مثل افسادها الطعام أو خروجها برأس عارية، بل ويستطيع أن يطلقها بلا سبب إن جذبته إنسانة أخرى.
جاء السيّد المسيح يرتفع بالمؤمنين إلى مستوى النضوج الروحي والمسئولية الجادة فلا يطق الرجل امرأته إلا لعلّة الزنا. ويُعلّق القدّيس أغسطينوس على كلمات السيّد بخصوص عدم التطليق قائلاً: [لم تأمر الشريعة الموسويّة بالتطليق، إنّما أمرت من يقوم بتطليق امرأته أن يعطها كتاب طلاق، لأنه في إعطائها كتاب طلاق (تطليق) ما يهدئ من ثورة غضب الإنسان. فالرب الذي أمر قساة القلوب بإعطاء كتاب تطليق أشار عن عدم رغبته في التطليق ما أمكن. لذلك عندما سُئل الرب نفسه عن هذا الأمر أجاب قائلاً: "إن موسى من أجل قساوة قلوبكم أذن لكم" (مت 19: ، لأنه مهما بلغت قسوة قلب الراغب في تطليق زوجته إذ يعرف أنها بواسطة كتاب التطليق تستطيع أن تتزوج بآخر، لذلك يهدأ غضبه ولا يطلقها. ولكي يؤكّد رب المجد هذا المبدأ - وهو عدم تطليق الزوجة باستهتار - جعل الاستثناء الوحيد هو علّة الزنا. فقد أمر بضرورة احتمال جميع المتاعب الأخرى بثبات من أجل المحبّة الزوجيّة ولأجل العفّة، وقد أكّد رب المجد نفس المبدأ بدعوته من يتزوج بمطلّقة "زانيًا.]
8. القسم
"وأيضًا سمعتم أنه قيل للقدماء لا تحنث، بل أوْف للرب أقسامك،
وأما أنا فأقول لكم لا تحلفوا البتّة،
لا بالسماء لأنها كرسي الله، ولا بالأرض لأنها موطئ قدميه،
ولا بأورشليم لأنها مدينة الملك العظيم.
ولا تحلف برأسك، لأنك لا تقدر أن تجعل شعرة واحدة بيضاء أو سوداء،
بل ليكن كلامكم نعم نعم لا لا،
وما زاد على ذلك فهو من الشرّير" [33-37].
لم يكن ممكنًا في العهد القديم أن يمتنع المؤمنون وهم في الطفولة الروحيّة عن القسم، لهذا طالبهم أن لا يحنثوا بل يوفوا للرب أقسامهم. أحيانًا كان يأمرهم أن يقسموا به ليس لأنه يودّ القسم، وإنما علامة تعبّدهم له وحده دون الآلهة الغريبة، بهذا كان يمنعهم من القسم بآلهة الأمم المحيطين به.
في العهد الجديد إذ دخلنا إلى النضوج الروحي يأمرنا السيّد ألا نقسم مطلقًا بل ليكن كلامنا نعم نعم ولا لا. ويعلّل القدّيس يوحنا الذهبي الفم هذا بقوله إن القسم أشبه بالريح بالنسبة لسفينة الغضب، بدونه لا يمكنها أن تبحر في حياة الإنسان. إنه يقول: [ضع قانونًا على إنسان كثير الانفعال ألاّ يقسم قط فلا تكون هناك حاجة لتعليمه الاتّزان.] ويعتبر القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن عدم القسم هو العلامة التي تميّز المسيحي ولغته الخاصة: [لنتقبّل هذا كختم من السماء، فيُنظر إلينا في كل موضع أننا قطيع الملك. ليتنا نعرف من نحن خلال فمنا ولغتنا.]
9. مقاومة الشرّ بالخير
"سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن،
وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشرّ،
بل من لطمك على خدك الأيمن فحوّل له الآخر أيضًا" [38-39].
في القديم منع الله شعبه من مقاومة الشرّ بشرٍ أعظم سامحًا لهم بذلك من أجل قسوة قلوبهم، أمّا وقد دخلنا العهد الجديد فقد ارتفع بنا إلى مقابلة الشرّ لا بشر مماثل أو أقل أو حتى بالصمت وإنما نقابله بالخير مرتقبًا بنا إلى أعلى درجات الكمال.
يرى القدّيس أغسطينوس أن السيّد المسيح قد دخل بنا إلى درجة الكمال المسيحي كأعلى درجات الحب التي تربط الإنسان بأخيه، إذ يرى العلاقة التي تقوم بين البشر تأخذ ست درجات:
الدرجة الأولى: تظهر في الإنسان البدائي الذي يبدأ بالاعتداء على أخيه.
الدرجة الثانية: فيها يرتفع الإنسان على المستوى السابق، فلا يبدأ بالظلم، لكنّه إذا أصابه شر يقابله بشرٍ أعظم.
الدرجة الثالثة: وهي درجة الشريعة الموسويّة التي ترتفع بالمؤمن عن الدرجتين السابقتين فلا تسمح له بمقاومة الشرّ بشر أعظم، إنّما تسمح له أن يقابل الشرّ بشر مساوٍ. أنها لا تأمر بمقابلة الشرّ بالشرّ، إنّما تمنع أن يرد الإنسان الشرّ بشرٍ أعظم، لكنّه يستطيع أن يواجه الشرّ بشر أقل أو بالصمت أو حتى بالخير إن أمكنه ذلك.
الدرجة الرابعة: مواجهة الشرّ بشرٍ أقل.
الدرجة الخامسة: يقابل الشرّ بالصمت، أي لا يقابله بأي شر، أي عدم مقاومته.
الدرجة السادسة: التي رفعنا إليها السيّد وهي مقابلة الشرّ بالخير، ناظرين إلى الشرّير كمريض يحتاج إلى علاج.
يُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم على مقاومة الشرّ بالخير، قائلاً: [لا تُطفأ النار بنارٍ أخرى، وإنما بالماء... ليس ما يصد صانعي الشرّ عن شرّهم مثل مقابلة المضرور ما يصيبه من ضرر برقّة. فإن هذا التصرّف ليس فقط يمنعهم عن الاندفاع أكثر، وإنما يعمل فيهم بالتوبة عما سبق أن ارتكبوه، فإنهم إذ يندهشون بهذا الاحتمال يرتدّون عما هم فيه. هذا يجعلهم يرتبطون بك بالأكثر، فلا يصيروا أصدقاءً لك فحسب، بل وعبيدًا عِوض كونهم مبغضين وأعداء.]
ماذا يقصد بالخد الأيمن والآخر؟
قدّم لنا السيّد أمثلة لمقابلة الشرّ بالخير في مقدّمتها إنه إذا لطمنا شخص على خدّنا الأيمن نحوّل له الآخر أيضًا. ولقد أوضح الآباء أن السيّد في تقديمه الوصيّة لم يقصد مفهومها بطريقة حرفيّة، لأن الإنسان لا يُلطم على خدّه الأيمن بل الأيسر اللهم إلا إذ كان الضارب أشولاً. إنّما الخدّ الأيمن يُشير إلى الكرامة الروحيّة أو المجد الروحي، فإن كان إنسان يسيء إلينا ليحطّم كرامتنا الروحيّة فبالحب نقدّم له الخد الأيسر أيضًا، أي الكرامة والأمجاد الزمنيّة والماديّة.
ويحذّرنا الأب يوسف من تنفيذ الوصيّة حرفيًا بينما لا يحمل القلب حبًا حقيقيًا نحو الضارب، خاصة وأن البعض يعملون على إثارة الآخرين ليضربوهم، الأمر الذي يسيء إلى الوصيّة الإلهيّة. ويختم حديثه بقوله: [إن كان خدّك الأيمن الخارجي يستقبل لطمة من الضارب فليقبل الإنسان الداخلي بتواضع أن يتقبّل الضربة على خدّه الأيمن. بهذا يحتمل الإنسان الخارجي بلطف، ويخضع الجسد لمضايقات الضارب فلا يضرب الإنسان الداخلي.]
v كثيرون تعلّموا كيف يقدّمون الخدّ الآخر، ولكنهم لم يتعلّموا كيف يحبّون ضاربهم. المسيح رب المجد، واضع الوصيّة ومنفّذها الأول، عندما لُطم على خدّه بواسطة عبد رئيس الكهنة ردّ قائلاً: "إن كنت قد تكلَّمت رديًا فاشهد على الردي، وإن حسنًا فلماذا تضربني؟!" (يو 18: 23). فهو لم يقدّم الخدّ الآخر، ومع ذلك فقد كان قلبه مستعدًا لخلاص الجميع لا بضرب خده الآخر فقط من ذلك العبد، بل وصلب جسده كله.
القدّيس أغسطينوس
الميل الثاني
"ومن سخرك ميلاً واحدًا فاذهب معه اثنين،
ومن سألك فاعطه،
ومن أراد أن يقترض منك فلا تردّه" [41-42].
تظهر أهمّية هذه الوصيّة من دعوة المسيحيّة بديانة الميل الثاني، حيث يقدّم المؤمن للآخرين أكثر ممّا يطلبون، لكي يربح نفسه ويربحهم بحبّه. سير الميل الثاني علامة قوّة الروح وانفتاح القلب بالحب، فلا يعمل الإنسان ما يطلب منه عن مضض، وإنما يقدّم أكثر ممّا يطلب منه.
كان اليهودي - تحت الحكم الروماني - مهدّدًا في أية لحظة أن يسخره جندي روماني ليذهب حاملاً رسالة معيّنة على مسافة بعيدة أو يقوم بعمل معين، وذلك كما فعل الجند حي سخروا سمعان القيرواني لحمل الصليب. فإن كان تحت العبوديّة القاسية يتقبّل الإنسان الميل المطلوب سيره، فإنه تحت نعمة الحرّية الكاملة يقدّم بكل سرور الميل الثاني دون أن يُطلب منه، إنّما هو علامة حرّيته.
v بالتأكيد إن الرب لا يقصد كثيرًا تنفيذ هذه الوصيّة بالسير على الأقدام، بقدر ما يعني إعداد الذهن لتنفيذ الوصيّة.
القدّيس أغسطينوس
كشف السيّد مفهوم العطاء بقوله "من سألك فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك فلا تردّه" ولعلّه أراد بذلك أن تكون لنا طبيعة العطاء السخيّة، فإن البعض في عزّة نفس لا يقدر أن يستعطي فيطلب قرضًا، فلا تطلب ردّه منعًا من إحراجه...
10. محبّة الأعداء
"سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوّك،
وأما أنا فأقول لكم أحبّوا أعداءكم،
باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم،
وصلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم،
لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات..." [43-45].
لم تأمر الشريعة ببغض العدوّ كوصيّة يلتزم بها المؤمن، في كسرها كسر للناموس وإنما كان ذلك سماحًا أُعطى لهم من أجل قسوة قلوبهم. لقد ألزمت بحب القريب وسمحت بمقابلة العداوة بعداوة مساوية، لكي تمهد لطريقٍ أكمل، أن يحب الإنسان قريبه على مستوى عام، أي كل بشر. يظهر ذلك بوضوح من الشريعة نفسها التي قدّمت نصيبًا من محبّة الأعداء ولو بنصيب قليل، فقيل: "إذا رأيت حمار مبغضك واقعًا تحت حمله وعدلت عن حلّه فلابد أن تحلّ معه" (خر 23: 5). وقيل أيضًا: "لا تكره أدوميًا لأنه أخوك، ولا تكره مصريًا لأنك كنت نزيلاً في أرضه" (تث 23: 7)، مع أن الأدوميّين والمصريّين كان من ألد أعدائهم.
هذا من جانب ومن جانب آخر كان الشعب في بداية علاقته بالله غير قادر على التمييز بين الخاطي والخطيّة، لذا سمح الله لهم بقتل الأمم المحيطين بهم رمزًا لقتل الخطيّة، خاصة وأن اليهود كانوا سريعًا ما يسقطون في عبادة آلهة الأمم المحيطين بهم.
لقد طالب السيّد المسيح المؤمنين أن يصعدوا بروحه القدّوس على سلّم الحب فيحبّون حتى الأعداء، ويحسنون إلى المبغضين لهم، ويصلّون لأجل المسيئين إليهم. وبهذا يحملون مثال أبيهم السماوي وشبهه. ويرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن السيّد المسيح قد جاء ليرفعنا إلى كمال الحب، الذي في نظره يبلغ الدرجة التاسعة، مقدّمًا لنا هذه الدرجات هكذا:
الدرجة الأولى: ألا يبدأ الإنسان بظلم أخيه.
الدرجة الثانية: إذا أصيب الإنسان بظلم فلا يثأر لنفسه بظلم أشد، وإنما يكتفي بمقابلة العين بالعين والسن بالسن (المستوى الناموسي الموسوي).
الدرجة الثالثة: ألا يقابل الإنسان من يسيء إليه بشر يماثله، إنّما يقابله بروح هادئ.
الدرجة الرابعة: يتخلّى الإنسان عن ذاته، فيكون مستعدًا لاحتمال الألم الذي أصابه ظلمًا وعدوانًا.
الدرجة الخامسة: في هذه المرحلة ليس فقط يحتمل الألم، وإنما يكون مستعدًا في الداخل أن يقبل الآلام أكثر مما يودّ الظالم أن يفعل به، فإن اغتصب ثوبه يترك له الرداء، وإن سخّره ميلاً يسير معه ميلين.
الدرجة السادسة: أنه يحتمل الظلم الأكثر ممّا يودّه الظالم دون أن يحمل في داخله كراهيّة نحو العالم.
الدرجة السابعة: لا يقف الأمر عند عدم الكراهيّة وإنما يمتد إلى الحب... "أحبّوا أعداءكم".
الدرجة الثامنة: يتحوّل الحب للأعداء إلى عمل، وذلك بصنع الخير "أحسنوا إلى مبغضيكم"، فنقابل الشرّ بعمل خير.
الدرجة التاسعة والأخيرة: يصلّي المؤمن من أجل المسيئين إليه وطارديه.
هكذا إذ يبلغ الإنسان إلى هذه الدرجة، ليس فقط يكون مستعدًا لقبول آلام أكثر وتعييرات وإنما يقدّم عوضها حبًا عمليًا ويقف كأب مترفّق بكل البشريّة، يصلّي عن الجميع طالبًا الصفح عن أعدائه والمسيئين إليه وطارديه، يكون متشبِّهًا بالله نفسه أب البشريّة كلها.
يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن غاية مجيء السيّد إلينا إنّما هو الارتفاع بنا إلى هذا السموّ إذ يقول: [جاء المسيح بهذا الهدف، أن يغرس هذه الأمور في ذهننا حتى يجعلنا نافعين لأعدائنا كما لأصدقائنا.]
ليس شيء يفرح قلب الله مثل أن يرى الإنسان المطرود من أخيه يفتح قلبه ليضمّه بالحب فيه، باسطًا يديه ليصلّي من أجله! يرى الله فيه صورته ومثاله! لهذا يختم السيّد الوصيّة بقوله "لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات، فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين" [45].
إن كنّا في مياه المعموديّة ننال روح التبنّي، ننعم بالسلطان أن نصير أولاد الله (يو 1: 12)، فإنّنا بأعمال الحب التي هي ثمرة روحه القدّوس فينا نمارس بنوتنا له، وننمو فيها ونزكِّيها. أبوّته لنا تدفعنا للحب، والحب يزكِّي بنوتنا له، يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [هذا هو السبب الذي لأجله ندعوه في الصلاة أبًا، لا لنتذكّر نعمته فحسب، وإنما من أجل الفضيلة فلا نفعل شيئًا غير لائق بعلاقة كهذه.]
فيما يلي بعض مقتطفات للآباء عن محبّة الأعداء:
v لو لم يكن شريرًا ما كان قد صار لكم عدوًا. إذن اشتهوا له الخير فينتهي شرّه، ولا يعود بعد عدوًا لكم. إنه عدوّكم لا بسبب طبيعته البشريّة وإنما بسبب خطيّته!
v كان شاول عدوًا للكنيسة، ومن أجله كانت تُقام صلوات فصار صديقًا لها. إنه لم يكف عن اضطهادها فحسب، بل وصار يجاهد لمساعدتها. كانت تُقام صلوات ضدّه، لكنها ليست ضدّ طبيعته بل ضدّ افتراءاته. لتكن صلواتكم ضدّ افتراءات أعدائكم حتى تموت، أما هم فيحيون. لأنه إن مات عدوّكم تفقدونه كعدوّ ولكنكم تخسرونه كصديق أيضًا. وأما إذا ماتت افتراءاته فإنكم تفقدونه كعدوّ وفي نفس الوقت تكسبونه كصديق.
v عندما تعانون من قسوة عدوّكم تذكّروا قول الرب: "يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" (لو 23: 34) .
القدّيس أغسطينوس
v لا تفيدنا الصلاة من أجل الأصدقاء بقدر ما تنفعنا لأجل الأعداء!... فإن صليّنا من أجل الأصدقاء لا نكون أفضل من العشّارين، أمّا إن أحببنا أعداءنا وصليّنا من أجلهم فنكون قد شابهنا الله في محبّته للبشر.
v يجب أن نتجنّب العداوة مع أي شخص كان، وإن حصلت عداوة مع أحد فلنسالمه في اليوم ذاته... وإن انتقدك الناس (على ذلك) فالله يكافئك. أمّا إن انتظرت مجيء خصمك إليك ليطلب منك السماح فلا فائدة لك من ذلك، لأنه يسلبك جائزتك ويكسب لنفسه البركة.
القدّيس يوحنا الذهبي الفم
الكمال
إذ يتحدّث عن درجات الكمال ويبلغ إلى قمّتها، أي حب الجميع حتى الأعداء بلا مقابل، يُعلن السيّد غاية ذلك ألاَ وهو الدخول في الحياة الكاملة والتشبّه بالله نفسه، إذ يقول: "لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات. فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين. لأنه إن أحببتم الذين يحبّونكم فأي أجر لكم؟! أليس العشّارون أيضًا يفعلون ذلك؟! وإن سلّمتم على إخوتكم فقط، فأي فضل تصنعون؟ أليس العشّارون أيضًا يفعلون هكذا؟! فكونوا أنتم كاملين، كما أن أباكم الذي في السماوات هو كامل" [45-48].
إن كانت غاية الله فينا أن يرانا أولاده نحمل صورته فينا وننجذب إليه بالحب لنحيا معه في أحضانه الإلهيّة ننعم بأمجاده، فإن غاية حياتنا الروحيّة ولقائنا معه هو أن ننعم بأبوّته لنا ونتأهل لنصير على مثاله فنحسب كاملين كما هو كامل!
v إنه يقول: الذين تشكّلت أساليب فكرهم فصارت مترفّقة ومملوءة حبًا نحو إخوتهم على مثال صلاح أبيهم، هم أبناء له!
القدّيس غريغوريوس النيسي
v إذ لا يمكننا أن نصير كالله في الجوهر، لكنّه بالتقدّم في الفضيلة نتشبّه بالله، حيث يمنحنا الرب هذه النعمة!
البابا أثناسيوس الرسولي
"وقيل من طلق امرأته فليعطها كتاب طلاق،
أمّا أنا فأقول لكم إن من طلق امرأته إلا لعلّة الزنا، يجعلها تزني،
ومن يتزوج مطلّقة فإنه يزني" [31-32].
كان الزواج قد انحط تمامًا عند الأمم، فالرومان الذين كانوا قبلاً يقدّسون الزواج فيحترم الرجل أسرته وتقوم المرأة أو الزوجة بدور رئيسي في الأسرة، قد تأثّر باليونان فكريًا، فصار الطلاق شائعًا جدًا. قيل عن امرأة أنها تزوّجت ثماني مرّات في خمس سنوات. أمّا اليونان فقد عرفوا في ذلك الوقت بالفساد حتى كان الرجال يحاولون عزل نساءهم خشية ممارستهم الشرّ، وفي كورنثوس تكرّست ألف كاهنة لبناء هيكل آخر لأفروديت إلهة الحب، فيجمعن المال بطريقة مملوءة خلاعة. أمّا بالنسبة لليهود فقد حملوا تقديسًا للزواج، فكان الطلاق مكروهًا لديهم. يقول الرب: "فاحذروا لروحكم ولا يغدر أحد بامرأة شبابه، لأنه يكره الطلاق قال الرب" (مل 2: 15-16). ومن أمثال الربيين: "يفيض المذبح دموعًا عندما يطلق إنسان امرأة شبابه". هكذا كان الطلاق مكروهًا جدًا، لكن الله سمح لهم به من أجل قسوة قلوبهم. وقد اختلفت مدارس التفسير اليهوديّة في تقديم الأسباب التي تبيح الطلاق. فمدرسة شمعي تميل إلى التضييق، فلا تسمح بالطلاق إلا في حالة فقدان العفّة. أمّا مدرسة هليل فكانت متحرّرة للغاية. يمكن للرجل أن يطلق امرأته لأي سبب مهما كان تافهًا مثل افسادها الطعام أو خروجها برأس عارية، بل ويستطيع أن يطلقها بلا سبب إن جذبته إنسانة أخرى.
جاء السيّد المسيح يرتفع بالمؤمنين إلى مستوى النضوج الروحي والمسئولية الجادة فلا يطق الرجل امرأته إلا لعلّة الزنا. ويُعلّق القدّيس أغسطينوس على كلمات السيّد بخصوص عدم التطليق قائلاً: [لم تأمر الشريعة الموسويّة بالتطليق، إنّما أمرت من يقوم بتطليق امرأته أن يعطها كتاب طلاق، لأنه في إعطائها كتاب طلاق (تطليق) ما يهدئ من ثورة غضب الإنسان. فالرب الذي أمر قساة القلوب بإعطاء كتاب تطليق أشار عن عدم رغبته في التطليق ما أمكن. لذلك عندما سُئل الرب نفسه عن هذا الأمر أجاب قائلاً: "إن موسى من أجل قساوة قلوبكم أذن لكم" (مت 19: ، لأنه مهما بلغت قسوة قلب الراغب في تطليق زوجته إذ يعرف أنها بواسطة كتاب التطليق تستطيع أن تتزوج بآخر، لذلك يهدأ غضبه ولا يطلقها. ولكي يؤكّد رب المجد هذا المبدأ - وهو عدم تطليق الزوجة باستهتار - جعل الاستثناء الوحيد هو علّة الزنا. فقد أمر بضرورة احتمال جميع المتاعب الأخرى بثبات من أجل المحبّة الزوجيّة ولأجل العفّة، وقد أكّد رب المجد نفس المبدأ بدعوته من يتزوج بمطلّقة "زانيًا.]
8. القسم
"وأيضًا سمعتم أنه قيل للقدماء لا تحنث، بل أوْف للرب أقسامك،
وأما أنا فأقول لكم لا تحلفوا البتّة،
لا بالسماء لأنها كرسي الله، ولا بالأرض لأنها موطئ قدميه،
ولا بأورشليم لأنها مدينة الملك العظيم.
ولا تحلف برأسك، لأنك لا تقدر أن تجعل شعرة واحدة بيضاء أو سوداء،
بل ليكن كلامكم نعم نعم لا لا،
وما زاد على ذلك فهو من الشرّير" [33-37].
لم يكن ممكنًا في العهد القديم أن يمتنع المؤمنون وهم في الطفولة الروحيّة عن القسم، لهذا طالبهم أن لا يحنثوا بل يوفوا للرب أقسامهم. أحيانًا كان يأمرهم أن يقسموا به ليس لأنه يودّ القسم، وإنما علامة تعبّدهم له وحده دون الآلهة الغريبة، بهذا كان يمنعهم من القسم بآلهة الأمم المحيطين به.
في العهد الجديد إذ دخلنا إلى النضوج الروحي يأمرنا السيّد ألا نقسم مطلقًا بل ليكن كلامنا نعم نعم ولا لا. ويعلّل القدّيس يوحنا الذهبي الفم هذا بقوله إن القسم أشبه بالريح بالنسبة لسفينة الغضب، بدونه لا يمكنها أن تبحر في حياة الإنسان. إنه يقول: [ضع قانونًا على إنسان كثير الانفعال ألاّ يقسم قط فلا تكون هناك حاجة لتعليمه الاتّزان.] ويعتبر القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن عدم القسم هو العلامة التي تميّز المسيحي ولغته الخاصة: [لنتقبّل هذا كختم من السماء، فيُنظر إلينا في كل موضع أننا قطيع الملك. ليتنا نعرف من نحن خلال فمنا ولغتنا.]
9. مقاومة الشرّ بالخير
"سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن،
وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشرّ،
بل من لطمك على خدك الأيمن فحوّل له الآخر أيضًا" [38-39].
في القديم منع الله شعبه من مقاومة الشرّ بشرٍ أعظم سامحًا لهم بذلك من أجل قسوة قلوبهم، أمّا وقد دخلنا العهد الجديد فقد ارتفع بنا إلى مقابلة الشرّ لا بشر مماثل أو أقل أو حتى بالصمت وإنما نقابله بالخير مرتقبًا بنا إلى أعلى درجات الكمال.
يرى القدّيس أغسطينوس أن السيّد المسيح قد دخل بنا إلى درجة الكمال المسيحي كأعلى درجات الحب التي تربط الإنسان بأخيه، إذ يرى العلاقة التي تقوم بين البشر تأخذ ست درجات:
الدرجة الأولى: تظهر في الإنسان البدائي الذي يبدأ بالاعتداء على أخيه.
الدرجة الثانية: فيها يرتفع الإنسان على المستوى السابق، فلا يبدأ بالظلم، لكنّه إذا أصابه شر يقابله بشرٍ أعظم.
الدرجة الثالثة: وهي درجة الشريعة الموسويّة التي ترتفع بالمؤمن عن الدرجتين السابقتين فلا تسمح له بمقاومة الشرّ بشر أعظم، إنّما تسمح له أن يقابل الشرّ بشر مساوٍ. أنها لا تأمر بمقابلة الشرّ بالشرّ، إنّما تمنع أن يرد الإنسان الشرّ بشرٍ أعظم، لكنّه يستطيع أن يواجه الشرّ بشر أقل أو بالصمت أو حتى بالخير إن أمكنه ذلك.
الدرجة الرابعة: مواجهة الشرّ بشرٍ أقل.
الدرجة الخامسة: يقابل الشرّ بالصمت، أي لا يقابله بأي شر، أي عدم مقاومته.
الدرجة السادسة: التي رفعنا إليها السيّد وهي مقابلة الشرّ بالخير، ناظرين إلى الشرّير كمريض يحتاج إلى علاج.
يُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم على مقاومة الشرّ بالخير، قائلاً: [لا تُطفأ النار بنارٍ أخرى، وإنما بالماء... ليس ما يصد صانعي الشرّ عن شرّهم مثل مقابلة المضرور ما يصيبه من ضرر برقّة. فإن هذا التصرّف ليس فقط يمنعهم عن الاندفاع أكثر، وإنما يعمل فيهم بالتوبة عما سبق أن ارتكبوه، فإنهم إذ يندهشون بهذا الاحتمال يرتدّون عما هم فيه. هذا يجعلهم يرتبطون بك بالأكثر، فلا يصيروا أصدقاءً لك فحسب، بل وعبيدًا عِوض كونهم مبغضين وأعداء.]
ماذا يقصد بالخد الأيمن والآخر؟
قدّم لنا السيّد أمثلة لمقابلة الشرّ بالخير في مقدّمتها إنه إذا لطمنا شخص على خدّنا الأيمن نحوّل له الآخر أيضًا. ولقد أوضح الآباء أن السيّد في تقديمه الوصيّة لم يقصد مفهومها بطريقة حرفيّة، لأن الإنسان لا يُلطم على خدّه الأيمن بل الأيسر اللهم إلا إذ كان الضارب أشولاً. إنّما الخدّ الأيمن يُشير إلى الكرامة الروحيّة أو المجد الروحي، فإن كان إنسان يسيء إلينا ليحطّم كرامتنا الروحيّة فبالحب نقدّم له الخد الأيسر أيضًا، أي الكرامة والأمجاد الزمنيّة والماديّة.
ويحذّرنا الأب يوسف من تنفيذ الوصيّة حرفيًا بينما لا يحمل القلب حبًا حقيقيًا نحو الضارب، خاصة وأن البعض يعملون على إثارة الآخرين ليضربوهم، الأمر الذي يسيء إلى الوصيّة الإلهيّة. ويختم حديثه بقوله: [إن كان خدّك الأيمن الخارجي يستقبل لطمة من الضارب فليقبل الإنسان الداخلي بتواضع أن يتقبّل الضربة على خدّه الأيمن. بهذا يحتمل الإنسان الخارجي بلطف، ويخضع الجسد لمضايقات الضارب فلا يضرب الإنسان الداخلي.]
v كثيرون تعلّموا كيف يقدّمون الخدّ الآخر، ولكنهم لم يتعلّموا كيف يحبّون ضاربهم. المسيح رب المجد، واضع الوصيّة ومنفّذها الأول، عندما لُطم على خدّه بواسطة عبد رئيس الكهنة ردّ قائلاً: "إن كنت قد تكلَّمت رديًا فاشهد على الردي، وإن حسنًا فلماذا تضربني؟!" (يو 18: 23). فهو لم يقدّم الخدّ الآخر، ومع ذلك فقد كان قلبه مستعدًا لخلاص الجميع لا بضرب خده الآخر فقط من ذلك العبد، بل وصلب جسده كله.
القدّيس أغسطينوس
الميل الثاني
"ومن سخرك ميلاً واحدًا فاذهب معه اثنين،
ومن سألك فاعطه،
ومن أراد أن يقترض منك فلا تردّه" [41-42].
تظهر أهمّية هذه الوصيّة من دعوة المسيحيّة بديانة الميل الثاني، حيث يقدّم المؤمن للآخرين أكثر ممّا يطلبون، لكي يربح نفسه ويربحهم بحبّه. سير الميل الثاني علامة قوّة الروح وانفتاح القلب بالحب، فلا يعمل الإنسان ما يطلب منه عن مضض، وإنما يقدّم أكثر ممّا يطلب منه.
كان اليهودي - تحت الحكم الروماني - مهدّدًا في أية لحظة أن يسخره جندي روماني ليذهب حاملاً رسالة معيّنة على مسافة بعيدة أو يقوم بعمل معين، وذلك كما فعل الجند حي سخروا سمعان القيرواني لحمل الصليب. فإن كان تحت العبوديّة القاسية يتقبّل الإنسان الميل المطلوب سيره، فإنه تحت نعمة الحرّية الكاملة يقدّم بكل سرور الميل الثاني دون أن يُطلب منه، إنّما هو علامة حرّيته.
v بالتأكيد إن الرب لا يقصد كثيرًا تنفيذ هذه الوصيّة بالسير على الأقدام، بقدر ما يعني إعداد الذهن لتنفيذ الوصيّة.
القدّيس أغسطينوس
كشف السيّد مفهوم العطاء بقوله "من سألك فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك فلا تردّه" ولعلّه أراد بذلك أن تكون لنا طبيعة العطاء السخيّة، فإن البعض في عزّة نفس لا يقدر أن يستعطي فيطلب قرضًا، فلا تطلب ردّه منعًا من إحراجه...
10. محبّة الأعداء
"سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوّك،
وأما أنا فأقول لكم أحبّوا أعداءكم،
باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم،
وصلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم،
لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات..." [43-45].
لم تأمر الشريعة ببغض العدوّ كوصيّة يلتزم بها المؤمن، في كسرها كسر للناموس وإنما كان ذلك سماحًا أُعطى لهم من أجل قسوة قلوبهم. لقد ألزمت بحب القريب وسمحت بمقابلة العداوة بعداوة مساوية، لكي تمهد لطريقٍ أكمل، أن يحب الإنسان قريبه على مستوى عام، أي كل بشر. يظهر ذلك بوضوح من الشريعة نفسها التي قدّمت نصيبًا من محبّة الأعداء ولو بنصيب قليل، فقيل: "إذا رأيت حمار مبغضك واقعًا تحت حمله وعدلت عن حلّه فلابد أن تحلّ معه" (خر 23: 5). وقيل أيضًا: "لا تكره أدوميًا لأنه أخوك، ولا تكره مصريًا لأنك كنت نزيلاً في أرضه" (تث 23: 7)، مع أن الأدوميّين والمصريّين كان من ألد أعدائهم.
هذا من جانب ومن جانب آخر كان الشعب في بداية علاقته بالله غير قادر على التمييز بين الخاطي والخطيّة، لذا سمح الله لهم بقتل الأمم المحيطين بهم رمزًا لقتل الخطيّة، خاصة وأن اليهود كانوا سريعًا ما يسقطون في عبادة آلهة الأمم المحيطين بهم.
لقد طالب السيّد المسيح المؤمنين أن يصعدوا بروحه القدّوس على سلّم الحب فيحبّون حتى الأعداء، ويحسنون إلى المبغضين لهم، ويصلّون لأجل المسيئين إليهم. وبهذا يحملون مثال أبيهم السماوي وشبهه. ويرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن السيّد المسيح قد جاء ليرفعنا إلى كمال الحب، الذي في نظره يبلغ الدرجة التاسعة، مقدّمًا لنا هذه الدرجات هكذا:
الدرجة الأولى: ألا يبدأ الإنسان بظلم أخيه.
الدرجة الثانية: إذا أصيب الإنسان بظلم فلا يثأر لنفسه بظلم أشد، وإنما يكتفي بمقابلة العين بالعين والسن بالسن (المستوى الناموسي الموسوي).
الدرجة الثالثة: ألا يقابل الإنسان من يسيء إليه بشر يماثله، إنّما يقابله بروح هادئ.
الدرجة الرابعة: يتخلّى الإنسان عن ذاته، فيكون مستعدًا لاحتمال الألم الذي أصابه ظلمًا وعدوانًا.
الدرجة الخامسة: في هذه المرحلة ليس فقط يحتمل الألم، وإنما يكون مستعدًا في الداخل أن يقبل الآلام أكثر مما يودّ الظالم أن يفعل به، فإن اغتصب ثوبه يترك له الرداء، وإن سخّره ميلاً يسير معه ميلين.
الدرجة السادسة: أنه يحتمل الظلم الأكثر ممّا يودّه الظالم دون أن يحمل في داخله كراهيّة نحو العالم.
الدرجة السابعة: لا يقف الأمر عند عدم الكراهيّة وإنما يمتد إلى الحب... "أحبّوا أعداءكم".
الدرجة الثامنة: يتحوّل الحب للأعداء إلى عمل، وذلك بصنع الخير "أحسنوا إلى مبغضيكم"، فنقابل الشرّ بعمل خير.
الدرجة التاسعة والأخيرة: يصلّي المؤمن من أجل المسيئين إليه وطارديه.
هكذا إذ يبلغ الإنسان إلى هذه الدرجة، ليس فقط يكون مستعدًا لقبول آلام أكثر وتعييرات وإنما يقدّم عوضها حبًا عمليًا ويقف كأب مترفّق بكل البشريّة، يصلّي عن الجميع طالبًا الصفح عن أعدائه والمسيئين إليه وطارديه، يكون متشبِّهًا بالله نفسه أب البشريّة كلها.
يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن غاية مجيء السيّد إلينا إنّما هو الارتفاع بنا إلى هذا السموّ إذ يقول: [جاء المسيح بهذا الهدف، أن يغرس هذه الأمور في ذهننا حتى يجعلنا نافعين لأعدائنا كما لأصدقائنا.]
ليس شيء يفرح قلب الله مثل أن يرى الإنسان المطرود من أخيه يفتح قلبه ليضمّه بالحب فيه، باسطًا يديه ليصلّي من أجله! يرى الله فيه صورته ومثاله! لهذا يختم السيّد الوصيّة بقوله "لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات، فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين" [45].
إن كنّا في مياه المعموديّة ننال روح التبنّي، ننعم بالسلطان أن نصير أولاد الله (يو 1: 12)، فإنّنا بأعمال الحب التي هي ثمرة روحه القدّوس فينا نمارس بنوتنا له، وننمو فيها ونزكِّيها. أبوّته لنا تدفعنا للحب، والحب يزكِّي بنوتنا له، يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [هذا هو السبب الذي لأجله ندعوه في الصلاة أبًا، لا لنتذكّر نعمته فحسب، وإنما من أجل الفضيلة فلا نفعل شيئًا غير لائق بعلاقة كهذه.]
فيما يلي بعض مقتطفات للآباء عن محبّة الأعداء:
v لو لم يكن شريرًا ما كان قد صار لكم عدوًا. إذن اشتهوا له الخير فينتهي شرّه، ولا يعود بعد عدوًا لكم. إنه عدوّكم لا بسبب طبيعته البشريّة وإنما بسبب خطيّته!
v كان شاول عدوًا للكنيسة، ومن أجله كانت تُقام صلوات فصار صديقًا لها. إنه لم يكف عن اضطهادها فحسب، بل وصار يجاهد لمساعدتها. كانت تُقام صلوات ضدّه، لكنها ليست ضدّ طبيعته بل ضدّ افتراءاته. لتكن صلواتكم ضدّ افتراءات أعدائكم حتى تموت، أما هم فيحيون. لأنه إن مات عدوّكم تفقدونه كعدوّ ولكنكم تخسرونه كصديق أيضًا. وأما إذا ماتت افتراءاته فإنكم تفقدونه كعدوّ وفي نفس الوقت تكسبونه كصديق.
v عندما تعانون من قسوة عدوّكم تذكّروا قول الرب: "يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" (لو 23: 34) .
القدّيس أغسطينوس
v لا تفيدنا الصلاة من أجل الأصدقاء بقدر ما تنفعنا لأجل الأعداء!... فإن صليّنا من أجل الأصدقاء لا نكون أفضل من العشّارين، أمّا إن أحببنا أعداءنا وصليّنا من أجلهم فنكون قد شابهنا الله في محبّته للبشر.
v يجب أن نتجنّب العداوة مع أي شخص كان، وإن حصلت عداوة مع أحد فلنسالمه في اليوم ذاته... وإن انتقدك الناس (على ذلك) فالله يكافئك. أمّا إن انتظرت مجيء خصمك إليك ليطلب منك السماح فلا فائدة لك من ذلك، لأنه يسلبك جائزتك ويكسب لنفسه البركة.
القدّيس يوحنا الذهبي الفم
الكمال
إذ يتحدّث عن درجات الكمال ويبلغ إلى قمّتها، أي حب الجميع حتى الأعداء بلا مقابل، يُعلن السيّد غاية ذلك ألاَ وهو الدخول في الحياة الكاملة والتشبّه بالله نفسه، إذ يقول: "لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات. فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين. لأنه إن أحببتم الذين يحبّونكم فأي أجر لكم؟! أليس العشّارون أيضًا يفعلون ذلك؟! وإن سلّمتم على إخوتكم فقط، فأي فضل تصنعون؟ أليس العشّارون أيضًا يفعلون هكذا؟! فكونوا أنتم كاملين، كما أن أباكم الذي في السماوات هو كامل" [45-48].
إن كانت غاية الله فينا أن يرانا أولاده نحمل صورته فينا وننجذب إليه بالحب لنحيا معه في أحضانه الإلهيّة ننعم بأمجاده، فإن غاية حياتنا الروحيّة ولقائنا معه هو أن ننعم بأبوّته لنا ونتأهل لنصير على مثاله فنحسب كاملين كما هو كامل!
v إنه يقول: الذين تشكّلت أساليب فكرهم فصارت مترفّقة ومملوءة حبًا نحو إخوتهم على مثال صلاح أبيهم، هم أبناء له!
القدّيس غريغوريوس النيسي
v إذ لا يمكننا أن نصير كالله في الجوهر، لكنّه بالتقدّم في الفضيلة نتشبّه بالله، حيث يمنحنا الرب هذه النعمة!
البابا أثناسيوس الرسولي
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى