The word of life
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

تابع الاصحاح الخامس * 2

اذهب الى الأسفل

تابع الاصحاح الخامس * 2 Empty تابع الاصحاح الخامس * 2

مُساهمة  marmar20 الجمعة نوفمبر 14, 2008 8:27 pm

3. رسالة المسيحي

"أنتم ملح الأرض،

ولكن إن فسد الملح فبماذا يُملح؟!

لا يصلح بعد لشيء إلا لأن يطرح خارجًا، ويُداس من الناس" [13].

بعد أن تحدّث عن التطويبات كسُلّم روحي يرتفع عليه المؤمن بالروح القدس لينعم بالحياة المقدّسة في المسيح يسوع ربّنا أوضح التزام المؤمن بالعمل في حياة الآخرين، مشبّهًا إيّاه بالملح الذي لا يُستغنى عنه في كل وجبة. دعاه ملح الأرض، لأنه يعمل في حياة البشر الذين صاروا أرضًا خلال ارتباطهم بالفكر الأرضي.

لملح الطعام أو كلوريد الصوديوم خصائص وسمات فريدة تنطبق على حياة المؤمن الحقيقي، نذكر منها:

أ. هو الملح الوحيد بين كل الأنواع الذي يتميّز بأنه متى اُستخدم في حدود معقولة وباعتدال لا يظهر طعمه ومذاقه في الطعام، وإنما يُبرز نكهة الطعام ذاته، وإذا وضعت كميّة كبيرة منه في طعام يفقد الطعام لذّته ومذاقه وتظهر ملوحة الملح هكذا، وإن كان يليق بالمسيحي أن يذوب في حياة الغير لكن في اعتدال دون أن يفقدهم شخصياتهم ومواهبهم وسماتهم الخاصة بهم، فلا يجعل منهم صورة مطابقة له، فيكون أشبه بقالبٍ يصب فيه شخصيّات الآخرين، ويفقدهم حيويّتهم، الأمر الذي يجعلهم كالطعام المالح. المسيحي الروحي هو من كان كالنسيم الهادئ يعبر ليستنشق الآخرون نسمات الحب، لا عواطف الرياح الشديدة.

ب. يتكوّن كلوريد الصوديوم من عنصرين هما الكلور والصوديوم وكلاهما سام وقاتل، لكن باتّحادهما يكوّنان الملح الذي لا غنى لنا عنه في طعامنا اليومي. والمسيحي أيضًا يتكوّن من عنصري النفس والجسد، إن انقسما بالخطيّة فقدا سلامهما، وصارا في حكم الموت، وصار الإنسان معثرًا. لهذا تدخّل السيّد المسيح واهبًا السلام الحقيقي بروحه القدّوس مخضعًا النفس كما الجسد في وحده داخليّة، ليكون الإنسان بكلّيته سرّ عذوبة الآخرين، يشهد للحق. إن كانت النفس تتسلّم قيادة الجسد في روحانيّة، فإن الجسد بدوره إذ يتقدّس يسند النفس ويعينها، فيحيا الإنسان مقدّسًا نفسًا وجسدًا، ويُعلن بوحدته الداخليّة في الرب عمل الله أمام الآخرين.

ج. ملح الطعام من أرخص أنواع الأطعمة يسهل استخراجه في أغلب بقاع العالم، لكن لا يمكن الاستغناء عنه. هكذا يليق بالمؤمنين أن يعيشوا بروح التواضع كسيّدهم، مقدّمين حياتهم رخيصة من أجل محبّتهم لكل إنسان في كل موضع.

ويُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم على قول السيّد لتلاميذه: "أنتم ملح الأرض" هكذا: [لا أرسلكم إلى مدينتين أو عشرة مدن أو عشرين مدينة، ولا إلى أمة واحدة كما أرسلت الأنبياء، إنّما أرسلكم إلى البرّ والبحر والعالم كله، الذي صار في حالة شرّيرة. فبقوله: "أنتم ملح الأرض" عني أن الطبيعة البشريّة كلها قد فقدت نكهتها، وأننا قد فسدنا بسبب خطايانا.]

لكن يحذّرنا السيّد لئلا نفسد نحن الذين ينبغي أن نكون كالملح، فلا نجد من يملِّحنا وينزع عنّا الفساد. هذا الحديث موجّه بصفة عامة لكل مؤمن، وعلى وجه الخصوص للرعاة والخدّام:

v إن كنتم أنتم الذين بواسطتكم تحفظ الأمم من الفساد، تخسرون ملكوت السماوات بسبب الخوف من الطرد الزمني، فمن هم الذين يرسلهم الرب لخلاص نفوسكم، إن كان قد أرسلكم لأجل خلاص الآخرين؟!

القدّيس أغسطينوس

v يشفع الكاهن لدي الله من أجل الشعب الخاطئ، ولكن ليس من يشفع في الكاهن (متى أخطأ).

القدّيس جيروم

v إن سقط الآخرون ربّما يستطيعون أن ينالوا العفو، ولكن إن سقط المعلّم، فإنه بلا عذر، ويسقط تحت انتقام غاية في القسوة.

القدّيس يوحنا الذهبي الفم

بعدما تحدّث عن المؤمنين كملح الأرض وجّهنا إلى رسالتنا كنورٍ للعالم، قائلاً: "أنتم نور العالم. لا يمكن أن تُخفي مدينة موضوعة على جبل، ولا يوقدون سراجًا ويضعونه تحت المكيال بل على المنارة، فيضيء لجميع الذين في البيت. فيضيء نوركم هكذا قدام الناس، لكي يروا أعمالكم الحسنة، ويمجّدوا أباكم الذي في السماوات" [14-16].

إن كنّا في محبتنا للبشر نشتهي أن نخدمهم ونذوب فيهم كالملح في الطعام لنقدّمهم خلال التوبة طعامًا شهيًا يفرح به الله، فإن الله لا يتركنا نذوب في الأرض، وإنما يرتفع بنا ويحسبنا كنور يضيء للعالم. إنه يقيمنا كالقمر الذي يستقبل نور شمس البرّ، ليعكس بهاءها على الأرض، فتستنير في محبّته. يعكس نوره على المؤمن، فيصير أكثر بهاءً من الشمس المنظورة، لا يقدر أحد أن يخفيه حتى وإن أراد المؤمن نفسه بكل طاقاته أن يختفي. لا يقدر أحد أن يسيء إليه، حتى مقاوميه الأشرار، يقول الرسول بولس: "لكي تكونوا بلا لوم وبسطاء أولاد الله بلا عيب في وسط جيل معوجّ وملتوٍِ تضيئون بينهم كأنوار في العالم" (في 2: 15) ويقول الرسول بطرس "أطلب إليكم... أن تكون سيرتكم بين الأمم حسنة، لكي يكونوا فيما يفترون عليكم كفاعلي شرّ يمجّدون الله في يوم الافتقاد من أجل أعمالكم الحسنة التي يلاحظونها" (1 بط 2: 11-12).

يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [الحياة التي نقدّمها أمامهم هي أكثر بهاءً من الشمس فإن تكلم علينا أحد بشرٍ، لا نحزن كمن شُوهت صورته، بل بالأحرى نحزن إن شوهت بعدلٍ.] هذا ويكشف السيّد بقوله هذا عن فاعلية الكرازة، وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [إنهم كما لو كانوا بأجنحة يعبرون كل الأرض أكثر سرعة من أشعة الشمس، ينشرون نور الصلاح.]

إذ تقوم كلمة الله على الحق تعلنها الكنيسة علانيّة كسراج موضوع على منارة، أما الهرطقات فتنتشر خفية بطرق ملتوية خلال الظلمة. هذا ما أكّده البابا أثناسيوس الرسولي في خطابه إلى أساقفة مصر حيث أوضح لهم منهج الأريوسيّين وأسلوبهم المخادع في العمل.

يشبّهنا السيّد المسيح بالمدينة القائمة على جبل، فلا يُمكن إخفائها. ما هي هذه المدينة التي تقوم على جبل إلا الإنسان الذي يحمله الروح القدس إلى الرب نفسه، ليجلس معه على الجبل يسمع وصاياه ومواعظه؟! هناك يلتصق به ويجلس عند قدميه، فيصير أشبه بمدينة مقدّسة يسكنها الله نفسه، ويضم إليها مملكته من ملائكة وقدّيسين، وخلالها يلتقي الخطاة بالمسيّا الملك بالتوبة. يصير المؤمن وهو يتقدّس على الجبل المقدّس أورشليم التي يراها الكل ويفرحون. هذا المفهوم يذكرنا بكلمات القدّيس جيروم في إحدى رسائله: [ما يستحق المديح ليس أنك في أورشليم، إنّما تمارس الحياة المقدّسة (كمدينة مقدّسة)... المدينة التي نبجِّلها ونطلبها، هذه التي لم تذبح الأنبياء (مت23: 37)، ولا سفكت دم المسيح، وإنما تفرح بمجاري النهر، وهذه القائمة على الجبل فلا تُخفي (مت 5: 14)، يتحدّث عنها الرسول كأمٍ للقديسين (غل 4: 26)، ويبتهج الرسول أن تكون له المواطنة فيها مع البرّ (في 3: 20).]

بهذا التشبيه أيضًا، المدينة القائمة على جبل والتي لا يمكن أن تُخفى، أراد السيّد تشجيع تلاميذه على خدمة البشارة بالكلمة مؤكّدًا لهم أن المضايقات لا يمكن أن تخفي الحق أو تُبطل عمل الله. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [أظن أنه لا يمكن لمدينة كهذه أن تُخفي، هكذا يستحيل أن ينتهي ما يكرزون به إلى السكون والاختفاء.]

يشبّهنا أيضًا بالسراج الذي لا يُخفي تحت المكيال بل يُوضع على المنارة، فيضيء لجميع الذين في البيت. ما هو هذا المكيال الذي يطفئ سراج النور الداخلي إلا الخضوع للمقاييس الماديّة في حياتنا الروحيّة، فإنه "ليس بكيل يعطي الله الروح" (يو 3: 34). كثيرًا ما تقف حساباتنا البشريّة الماديّة عائقًا أمام الإيمان، الأمر الذي يفقد صلواتنا وطلباتنا حيويّتها وفاعليّتها، لهذا عندما أرسل السيّد المسيح تلاميذه للكرازة سحب منهم كل إمكانيّات ماديّة، فلا يكون لهم ذهب ولا فضّة ولا نحاس ولا مزود ولا ثوبان ولا أحذية ولا عصا (مت 10: 9-10)، لكي ينزع عنهم كل تفكير مادي، تاركًا كل الحسابات في يديّ السيّد نفسه، فيكون هو غناهم وطعامهم وشربهم وملبسهم وحمايتّهم!

والمكيال يُشير أيضًا إلى حجب النور الروحي، حيث يغلف الإنسان روحه بالملذّات الجسديّة الكثيفة والزمنيّة، فيحبس الروح ويحرمها من الانطلاق لتحلق في الاشتياقات الأبديّة. يتحوّل الجسد إلى عائق للروح، عِوض أن يكون معينًا لها خلال ممارسته العبادة، وتقدّيس كل عضو فيه لحساب الملك المسيّا.

ليتنا لا نحبس النور الروحي فينا في غلاف الشهوات الجسديّة، وإنما ننطلق به لنضعه فوق المنارة، أي فوق الجسد بكل حواسه، فلا يكون الجسد مسيطرًا بل مستعبدًا للنور الحق. لقد وضع الرسول بولس سراجه على المنارة حينما قال: "أضارب كأني لا أضرب الهواء، بل أقمع جسدي واستعبده، حتى بعدما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضًا" (1 كو 9: 26-27). بهذا يضيء السراج في البيت. وكما يقول القدّيس أغسطينوس: [أظن أن الذي دُعي بالبيت هنا هو مسكن البشر، أي العالم نفسه، وذلك كقوله "أنتم نور العالم". إلاّ أنه إذا فهم شخص ما البيت على أنه الكنيسة فهذا صحيح كذلك.]

ويُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم على السراج المتّقد على لسان السيّد نفسه، قائلاً: [حقًا أنا الذي أوقد النور، أمّا استمرار إيقاده فيتحقّق خلال جهادكم أنتم... بالتأكيد لا تقدر المصائب أن تعطِّل بهاءكم إن كنتم لا تزالون تسلكون الحياة الدقيقة، فتكونون سببًا لتغيير العالم كله. إذن، فلتُظهروا حياة تليق بنعمته، حتى إذ تكرزون في أي موضع يصاحبكم هذا النور.]

بهذا يضيء نورنا، الذي ليس هو إلا نور الروح القدس الساكن فينا، قدام الناس، لكي يروا أعمال الله فينا، فيتمجّد أبونا الذي في السماوات. لسنا نقدّم العمل الروحي طلبًا لمجد أنفسنا بل لمجد الله. وكما يقول القدّيس أغسطينوس: [لم يقل "لكي يروا أعمالكم الحسنة" فقط، بل أضاف: "ويمجّدوا أباكم الذي في السماوات"، لأن الإنسان يُرضي الآخرين بأعماله الحسنة، لا لأجل إرضائهم في ذاته، بل لتمجيد الله. فيرضي البشر ليتمجّد الله في عمله، لأنه يليق بالذين يعجبون بالأعمال الحسنة أن يمجّدوا الله لا الإنسان، وذلك كما أظهر ربّنا عند شفاء المفلوج، إذ يقول معلّمنا متى: "تعجّبوا ومجدوا الله الذي أعطى الناس سلطانًا مثل هذا" (مت9: Cool.]

ومما يجب تداركه أن الله وهو يدعو تلاميذه "نور العالم" لا يشعر التلاميذ أنهم هكذا وإلا فقدوا تواضعهم وانطفأ النور الروحي فيهم، فموسى النبي لم يكن يعرف أن وجهه كان يلمع، وإنما من أجل طلب الشعب كان يغطِّي وجهه بالبرقع. ما أحوجنا لا أن نشهد لأنفسنا، بل يشهد الله نفسه والآخرون بنوره فينا!

4. تكميل الناموس

إن كان المسيّا الملك يطالبنا أن نعلن النور الإلهي الساكن فينا خلال حياتنا العمليّة، فتصبح حياتنا كسراجٍ على منارة يضيء لكل من في البيت، ويتمجّد أبونا السماوي أمام الجميع، فما هي الوصايا المسيحانيّة التي نلتزم بها في حياتنا؟ هل هي وصايا غير الشريعة الموسويّة؟ وهل تتعارض معها؟

يجيب السيّد مؤكدًا: "لا تظنّوا إني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمل" [17].

لقد ظنّ اليهود خاصة قادتهم أنهم حفظة الناموس والحارسون له، مع أنهم كانوا ينقضونه بأعمالهم المخالفة له، وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [مع أنهم لم يكمِّلوا الناموس، إلا أنهم كانوا يتطلّعون إليه بضمير حيّ عظيم. وبينما كانوا يفسخونه كل يوم بأعمالهم، لكنهم يحافظون على حروفه لتبقى كما هي بلا تغيير، ولا يضيف عليه أحد شيئًا. لكنهم بالحقيقة أضافوا هم ورؤساؤهم إليه لا ما هو أفضل بل ما هو أردأ، إذ اعتادوا أن يتركوا التكريم اللائق بالوالدين جانبًا بإضافات من عندهم.] أمّا السيّد المسيح فقد جاء ليكمّل الناموس والأنبياء بطرق متنوّعة، منها:

أولاً: تحقّقت النبوّات في شخص المسيّا، وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لقد أكمل الأنبياء بقدر ما أكّد بأعماله كل ما قيل عنه، فقد اعتاد الإنجيلي أن يقول في كل حالة: "لكي يتم ما قيل بالنبي" (مت 1: 22-23)، وذلك عندما وُلد، وعندما ترنم له الأطفال بالتسبحة العجيبة، وعندما ركب الأتان (مت 21: 5-16)، وغير ذلك من الأمثلة الكثيرة. لقد حقّق هذه الأمور التي ما كان يمكن تحقيقها لو لم يأتِ.]

ثانيًا: أكمل السيّد الناموس بخضوعه لوصايا دون أن يكسر وصيّة واحدة. يقول ليوحنا المعمدان: "لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل له كل برّ" (مت 3: 15)، ويقول لليهود: "من منكم يبكّتني على خطيّة؟" (يو 8: 46)، كما يقول لتلاميذه: "رئيس هذا العالم يأتي وليس له فيّ شيء" (يو 14: 30). هذا وقد شهد عنه النبي، قائلاً: "إنه لم يعمل ظلمًا، ولم يكن في فمه غش" (إش 53: 9).

ثالثًا: يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن السيّد المسيح لم يكمّل الناموس في نفسه فحسب، وإنما يكمّله أيضًا فينا، قائلاً: [هذا هو العجب ليس أنه هو حقّق الناموس، بل وهبنا نحن أيضًا أن نكون مثله، الأمر الذي أعلنه بولس بقوله: "لأن غاية الناموس هي المسيح للبرّ لكل من يؤمن" (رو 10: 4)، كما قال: "دان الخطيّة في الجسد، لكي يتم حكم الناموس فينا نحن السالكين ليس حسب الجسد" (رو 8: 3-4) وأيضًا: أفنُبطل الناموس بالإيمان؟! حاشا! بل نثبِّت الناموس" (رو 3: 31). فإنه مادام الناموس كان عاملاً لكي يبرّر الإنسان، لكنّه عجز عن تحقيق ذلك. جاء (المسيح) ودخل بالإنسان إلى طريق البرّ بالإيمان مثبتًا غاية الناموس. ما لم يستطع الناموس أن يتمّمه بالحروف تحقّق بالإيمان، لهذا يقول: "ما جئت لأنقض بل لأكمل".]

رابعًا: أكمل أيضًا السيّد الناموس بتكميل نصوصه، بالدخول إلى أعماقه. ففي القديم أمر الناموس بعدم القتل، فجاء السيّد ليؤكّد الوصيّة لا بمنع القتل فحسب، وإنما بمنع الغضب باطلاً، أي نزع الجذر، فتبقى الوصيّة في أكثر أمان، إنه بهذا لم ينقضها، بل قدّمها في أكثر حيويّة وقوّة. يقول القدّيس يوحنا كاسيان: [تأمرنا كلمة الإنجيل باستئصال جذور سقطاتنا، وليس نزع ثمارها، فعند إزالة جميع الدوافع بلا شك لن تقوم من جديد.]

يؤكّد السيّد عدم نقضه للناموس بقوله: "فإني الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف (i) واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل" [18]. ويُعلّق القدّيس أغسطينوس على هذه العبارة، قائلاً: [إن كانت الإضافة كاملة فبالأولى تكون البداءة كاملة، لذلك يفهم قوله: "لا يزول حرف (i) واحد أو نقطة واحدة من الناموس" على أنه تعبير عن كمال الناموس. لقد أشار بحرف صغير، لأن حرف (i) أصغر الحروف يتكون من خط صغير، ثم أشار إلى النقطة التي توضع على الحرف، مظهرًا بذلك أن لأصغر الأجزاء في الناموس قيمة.]

يؤكّد السيّد قدسيّة الناموس حتى في أصغر حروفه أو نقطة، أي في أصغر وصاياه، معلنًا التزامنا بتكميله في حياتنا العمليّة كما في التعليم. يقول: "فمن نقض إحدى هذه الوصايا الصغرى وعلّم الناس هكذا يُدعى أصغر في ملكوت السماوات. وأما من عمل وعلَّم فهذا دُعي عظيمًا في ملكوت السماوات. فإني الحق أقول لكم إن لم يزد بركم على الكتبة والفرّيسيّين لن تدخلوا ملكوت السماوات" [19-20].

لقد ظنّ الفرّيسيّون أنهم يحفظون الناموس خلال غيرتهم بالتعليم، ولم يدروا أنهم ينقضونه بحياتهم الشرّيرة، فالتعليم بغير عمل يُحسب كنقضٍ للناموس، ولا يكون للتعليم فاعليته، وأيضًا العمل بغير الشهادة أمام الآخرين يقلّل المكافأة.

v كما أن التعليم بدون عمل يدين المعلّم، كذلك العمل دون مساندة الآخرين يقلّل من المكافأة.

v من لا يقدر أن يُعلّم نفسه ويحاول إصلاح الآخرين يسخر به الكثيرون، أو بالأحرى مثل هذا لا يكون له أي قوّة للتعليم نهائيًا، لأن أعماله تجعل كلماته ضدًا له.

القدّيس يوحنا الذهبي الفم

إذ دخل السيّد بالناموس إلى الكمال، لهذا يلتزم أبناء الملكوت أن يرتفعوا إلى حياة أكمل ممّا للكتبة والفرّيسيّين. يقدّم لنا الآباء تفسيرًا لذلك:

v برّ الفرّيسيّين هو عدم القتل، وبرّ المُعَدّين لملكوت السماوات هو عدم الغضب باطلاً. لذلك فالوصيّة الصغرى هي أن لا تقتل، ومن ينقضها يُدعى أصغر في ملكوت السماوات، وأما من عمل بها فليس من الضروري أن يكون عظيمًا، بل يرتفع إلى درجة أسمى من الأولى، ولكنه يصير كاملاً إن كان لا يغضب باطلاً، وبالتالي سوف لا يكون قاتلاً.

القدّيس أغسطينوس

v حيث إن المكافأة هنا أعظم والقوّة الممنوحة بالروح أغزر، لذا يجب أن تكون فضائلنا أيضًا أعظم. فإنه لم يعدنا هنا بأرض تفيض لبنًا وعسلاً، ولا براحة طول العمر، ولا كثرة الأطفال، ولا (ببركة) الحِنطة والخمر والغنم والقطعان، إنّما صارت لنا السماء والسماويّات والتبنّي والأخوة للابن الوحيد وشركة الميراث معه، وأن نتمجّد معه ونملك معه، وغير دلك من الجزاءات غير المحصيّة. أمّا بخصوص تمتّعنا بعونٍ أعظم، فاسمع ما يقوله بولس: "إذًا لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح، لأن ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقني من ناموس الخطيّة والموت" (رو 8: 1-2).

القدّيس يوحنا الذهبي الفم

بين التطويبات وتكميل الناموس

قبل أن ندخل في الحديث عن تكميل الناموس، نودّ أن نشير إلى ما قاله القدّيس يوحنا الذهبي الفم من وجود ارتباط قوي بين التطويبات الواردة في مقدّمة العظة وما جاء هنا. فالتطويبات قدّمت لنا الجانب الإيجابي للحياة الفاضلة في المسيح يسوع ربّنا ومكافآتها، أمّا هنا فيقدّم لنا السيّد الجانب السلبي بالامتناع عن الشرّ، لا في التصرّفات الظاهرة فحسب، وإنما باقتلاعه من القلب في الداخل، مهدّدًا بالجزاءات.

فالمسكنة بالروح إنّما تطابق عدم الغضب، لأن المسكين بالروح أو متواضع القلب لا يجد الغضب فيه موضعًا. ونقاوة القلب تقابل عدم النظر إلى امرأة بقصد الشهوة، وعدم وضع الكنز على الأرض، فإن القلب النقي الطاهر لا يشتهي الجسديّات من زنا ومحبّة مال. صُنع الرحمة، والحزن الروحي، واحتمال التعيير والطرد، هذه جميعها تقابل الدخول من الباب الضيق، حيث يشتهي الإنسان أن يحتمل آلامًا من أجل المسيح، فيمتلئ قلبه رحمة، ويتألّم لآلام الآخرين، ويقبل إهاناتهم وشرهم، مقدّمًا الخير عِوض شرّهم. الجوع والعطش إلى البرّ يقابله الوصيّة الإلهيّة، بأن تفعل ما يريد الناس أن يفعلوا بنا، فالنفس التي تتوق إلى السيّد المسيح لا تقدر إلا أن تقدّم السيّد المسيح للآخرين، معلنًا في تصرفاتهم الظاهرة كما في أحاسيسهم الداخليّة. صنع السلام يقابل ترك القربان، حيث لا يقدر إنسان أن يلتقي مع الله مقدّمًا القرابين المقدّسة بغير تمتّعه بالمصالحة مع الآخرين.
marmar20
marmar20

عدد الرسائل : 43
تاريخ التسجيل : 10/10/2008

http://matbakhmarmar.ahlamontada.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى